غزة - خاص قدس الإخبارية: عادت حرارة الاتصالات إلى مسار التفاوض، بعد أشهر من الجمود الذي فُرض بفعل تعنّت إسرائيلي–أميركي إزاء تعديلات المقاومة الفلسطينية على مقترح "ويتكوف 3"، ما أدى إلى تعطيل محاولات تجديد التهدئة التي أطاح بها الاحتلال مطلع مارس الماضي.
ومجدّدًا، يجد مفاوضو المقاومة أنفسهم أمام مهمة شديدة الحساسية، تمسّ مصير حرب الإبادة التي يتعرض لها قطاع غزة، وتُلامس واقعًا إنسانيًا مأساويًا لسكان منهكين بفعل القتل والتجويع والحصار. وفي الوقت ذاته، تُطوّقهم مخاطر استراتيجية كبرى ترتبط بمشاريع الاحتلال بعيدة المدى لإعادة هندسة القطاع سياسيًا وديمغرافيًا.
وفي ظل مشهد إقليمي ودولي مجافٍ، وانحيازٍ أميركي مطلق للاحتلال، وتورّط مباشر في جرائم الإبادة، تتحرّك المقاومة ضمن هامش شديد الضيق، يتطلب أعلى درجات المرونة والتصلب في آنٍ معًا. وذلك في سبيل اقتناص كل فرصة جادة لوقف العدوان، دون التفريط بأي من المكاسب أو الثوابت الاستراتيجية، التي سيكون المساس بها بمثابة خسارة تاريخية لا تمسّ الحاضر فقط، بل ترهن مستقبل الأجيال الفلسطينية القادمة.
مشهد مركّب: ما تريده واشنطن ويخطط له الاحتلال
تأتي العملية التفاوضية في سياق إقليمي ودولي بالغ التعقيد، تعمل فيه الولايات المتحدة على ترسيخ مسار متعدد المسارات، يهدف في محصلته إلى فرض وقائع جديدة في الشرق الأوسط، تُخرج ما يُسمى بـ"الشرق الأوسط الجديد" من إطار التنظير إلى حيّز التنفيذ.
وهو المشروع الذي لطالما سعى رئيس وزراء الاحتلال إلى هندسته بأدوات عدوانية، كان أعنفها حرب الإبادة التي طالت شعوب المنطقة من غزة إلى بيروت، ومن دمشق وصنعاء إلى طهران، في محاولة ممنهجة لتفكيك بنية قوى المقاومة وتحييدها.
وقد مثّلت الحرب الأخيرة على إيران ذروة هذا النهج، حين شاركت الولايات المتحدة بشكل مباشر في قصف المنشآت النووية الإيرانية عبر قاذفاتها الاستراتيجية، في خطوة عُدّت تتويجًا للعدوان الإسرائيلي، ومحاولة لحسم جولة الاشتباك الكبرى، وإنقاذ الاحتلال الإسرائيلي من مستنقع استنزاف طويل الأمد لم تكن مهيّأة له.
في ضوء ذلك، باتت واشنطن ترى أن اللحظة مواتية لترسيخ نتائج استراتيجية في الإقليم، وتحويل الاندفاعة العسكرية الإسرائيلية إلى منصة لفرض مناخ إقليمي جديد، يقوم على التعايش الأمني مع الاحتلال، والتنصل من أي التزامات نضالية أو قومية سابقة.
ويُعاد إحياء قطار التطبيع بوصفه "الثمرة السياسية الكبرى" لهذه الهندسة الإقليمية، غير أن استمرارية القتال في غزة تُبقي المشهد متوترًا ومربكًا، مما يحول دون تدشين هذه المرحلة الجديدة من العلاقات.
في المقابل، يجد بنيامين نتنياهو نفسه في بيئة داخلية أكثر ارتياحًا بعد الحرب على إيران، تتيح له التفكير بخيارات دراماتيكية حاسمة فيما يخص الحرب على غزة، أملًا في ترجمة الزخم العسكري إلى رصيد انتخابي مباشر.
لكنه يدرك أن بلوغ "منطقة الأمان السياسي" يتطلب إنجازًا ميدانيًا كبيرًا، وعلى رأسه استعادة الأسرى المحتجزين لدى المقاومة. ومع انعدام الأفق العسكري لتحريرهم، بل وترجيح أن يؤدي الضغط العسكري إلى تصفيتهم، يصبح التفاوض هو السبيل الوحيد المتاح – وإن كان مكلفًا.
لكن الحاجة الإسرائيلية–الأميركية للتهدئة في قطاع غزة لا تأتي من باب البراغماتية المجردة، بل تنبع من جوهر أهداف الحرب: تحييد غزة عن المسار الوطني الفلسطيني، وترك الباب مواربًا أمام استكمال مشاريع التصفية والتهجير الجماعي.
وهنا تزداد تعقيدات المشهد التفاوضي للمقاومة، التي باتت تسير على خيط رفيع بين انتزاع فرصة وقف العدوان، وبين تفادي الوقوع في فخ استثماره لتكريس نتائج سياسية خطيرة. إنها مهمة شديدة الحساسية، تتطلب أقصى درجات الحذر والبصيرة الاستراتيجية.
استراتيجية المقاومة: أولوية وقف العدوان أولًا
منذ اللحظة الأولى لحرب الإبادة، دخلت المقاومة الفلسطينية معركة التفاوض بسقف واضح: وقف العدوان الشامل على قطاع غزة، والتوصل إلى صفقة تبادل على قاعدة "الكل مقابل الكل". فقد كان جليًا أن الاحتلال يخوض حربًا بلا خطوط حمراء، مستخدمًا كل أدوات القتل والتجويع والحصار، في استهداف ممنهج لشعب أعزل.
ورغم تقديم المقاومة عرضًا مبكرًا لإنهاء القتال، فإن الاحتلال اختار التصعيد، مستندًا إلى غطاء دولي وأميركي كامل، في عدوان حمل كل مواصفات الإبادة الجماعية، وبُثّت مشاهد جرائمه على الهواء مباشرة أمام أنظار العالم.
أمام هذا الواقع، طورت المقاومة استراتيجيتها التفاوضية تدريجيًا، مرتكزة إلى أولوية مطلقة: وقف العدوان، واحتواء الكارثة الإنسانية المتفاقمة. وعلى هذا الأساس، وافقت على التهدئة الإنسانية الأولى في نوفمبر 2023، إلا أن الاحتلال سارع إلى تقويضها في مطلع ديسمبر، عبر اجتياح واسع لمدينة خانيونس.
وعلى ضوء هذا الإخفاق، أعادت المقاومة ضبط مسارها التفاوضي، لتُعيد التأكيد على أن أي تفاهم لا يبدأ بوقف العدوان الكامل، هو عمليًا محاولة إسرائيلية لتفريغها من أوراق قوتها، وإطالة أمد الإبادة بهدف تحقيق أهداف سياسية مبيتة. وفي هذا الإطار، باتت الأولوية في كل جولة تفاوضية تنطلق من مبدأ واضح: لا تفاوض على التفاصيل ما لم يُحسم مصير العدوان ومفاعيله.
وبناءً على ذلك، شددت المقاومة على ضرورة تضمين أي اتفاق بنودًا صريحة تضمن عودة النازحين إلى مناطقهم، وانسحاب جيش الاحتلال من أراضي قطاع غزة، بما في ذلك تفكيك نقطة نيتساريم العسكرية في وسط القطاع، باعتبارها مؤشرًا خطيرًا على نية الاحتلال ترسيخ وجود دائم. كما أصرّت على بروتوكول إنساني متكامل يعالج تداعيات الحرب في القطاعات الحيوية.
ومن إطار "باريس" إلى عرض بايدن في مايو 2024، نجحت المقاومة في دحرجة الطروحات الدولية، وانتزاع مساحة تفاوضية جديدة، منعت قصر النقاش على ملف تبادل الأسرى فقط، ودفعت المجتمع الدولي للتعاطي مع المطالب الجوهرية بخصوص إنهاء العدوان.
وقد مثّل اتفاق 19 يناير 2025 نقلة مفصلية، أفضى إلى تقليص المخاطر الاستراتيجية التي تهدد قطاع غزة، وعلى رأسها محاولة تحويل شمال القطاع إلى منطقة عازلة خالية من السكان، ومأسسة محور نيتساريم كبؤرة أمنية دائمة. كما تضمّن البروتوكول الإنساني آليات استجابة سريعة لإعادة تشغيل القطاعات الحيوية، وتوفير سبل الإيواء المؤقت وعودة الأهالي إلى منازلهم المدمرة أو مناطقهم الأصلية.
هذا الأداء التفاوضي المتقدم أسهم فعليًا في إعادة توزيع الكثافة السكانية التي حاول الاحتلال تشويهها عبر التهجير والتدمير الممنهج، وأعاد تشكيل البيئة الداخلية في قطاع غزة على نحو يجهض الخطط الإسرائيلية بعيدة المدى. وقد انعكس ذلك مباشرة على خطط الجيش الإسرائيلي، ومنها خطة "عربات جدعون" التي رُوّج لها كأداة لحسم المعركة، قبل أن يتبيّن عجزها في الميدان.
لقد بنت المقاومة مقاربتها التفاوضية على إدراك عميق للواقع ومتطلباته، فكان هدفها الأول وقف شلال الدماء، وتفكيك أهداف الحرب الاستراتيجية، خصوصًا تلك المتعلقة بالتهجير، والتقسيم السكاني، والتمركز العسكري طويل الأمد. وفي المقابل، أبدت مرونة مسؤولة إزاء أي بنود أخرى لا تُكرّس وجودًا احتلاليًا دائمًا، بما يحفظ جوهر المعركة ويُبقي جذوة الصراع الوطني مشتعلة.
"إطار ويتكوف" الجديد وتعديلات المقاومة
حضر المقترح الأميركي الأخير، المعروف إعلاميًا بـ"إطار ويتكوف" الجديد، كنسخة معدّلة عن المبادرة السابقة التي صاغها المبعوث الأميركي بالتعاون مع وزير الشؤون الاستراتيجية في حكومة الاحتلال، رون ديرمر. وقد طُرح هذا الإطار باعتباره الأرضية الأساسية لاستئناف المسار التفاوضي، في لحظة تُعد من الأكثر حساسية في عمر الحرب، وفي المشهد الإقليمي برمّته.
رأت المقاومة في هذه المبادرة فرصة مهمة، قد تشكّل مدخلًا لإنهاء العدوان واستعادة مسار التهدئة الذي كان الاحتلال قد نسفه مطلع مارس. لكنها فرصة مشروطة بتطوير الاستراتيجية التفاوضية على ذات الأسس الثابتة: أولوية وقف العدوان، واحتواء تداعياته، مع استخلاص دروس التجارب السابقة التي كشفت هشاشة أي تفاهم مع طرف لا يتردد في الغدر والانقلاب على الاتفاقات.
في هذا السياق، صاغت المقاومة ردها على المقترح الأميركي بمنهجية "السهل الممتنع": لم ترفضه، لكنها قدّمت تعديلات دقيقة ومدروسة، دون أن تطرح ملاحظات فاقعة قد تُفجّر المسار. فقد اختارت أن تتعامل بمرونة عالية دون تسليم، إدراكًا منها لحساسية اللحظة ودقّتها، وحرصًا على إبقاء نافذة الفرصة مفتوحة.
ومن اللافت أن المقاومة لم تُصرّ هذه المرة على تحديد أعداد الأسرى الأحياء أو وضع جدول دقيق ومتسلسل لتسليمهم، رغم إدراكها لحساسية هذه النقطة وخطورتها في ظل سلوك الاحتلال. لكنها فضّلت تجاوز هذا التفصيل، تفاديًا لتفجير المسار التفاوضي، وتأكيدًا على أولوية وقف العدوان باعتباره الهدف الأسمى.
وانطلاقًا من قناعتها بصعوبة التوصل إلى اتفاق شامل بضربة واحدة، اختارت المقاومة مقاربة "تفكيك المشهد العدواني" عبر التركيز على ثلاث نقاط جوهرية:
1. الضمانات الدولية: طلبت المقاومة التزامًا واضحًا بالانتقال من مرحلة الهدنة إلى مفاوضات إنهاء الحرب، وعدم حصر الاتفاق في هدنة محدودة بستين يومًا. كما طالبت بإشراك أطراف دولية إضافية كضامنين للعملية.
2. ملف المساعدات والإغاثة: شددت على تطبيق البروتوكول الإنساني المتفق عليه في اتفاق 19 يناير، لا سيما ما يتعلق بإدخال المعدات الثقيلة لانتشال الجثامين، ورفع الأنقاض، وترميم البنية التحتية الصحية، وتشغيل المخابز.
3. خرائط الانسحاب والمرجعيات: أكدت أن الاتفاق يجب أن يُبنى على الأسس التي أُقرت سابقًا قبل تراجع نتنياهو عنها في مارس، بما يعني العودة إلى خطوط ما قبل 2 مارس، كخطوة أولى نحو انسحاب شامل من قطاع غزة.
ومن خلال هذه التعديلات، تسعى المقاومة إلى تحييد النتائج الاستراتيجية الأخطر للعدوان، وتجفيف آثاره طويلة المدى، خاصة في ما يتعلق بمخططات الاحتلال لتحويل التواجد العسكري على الأرض إلى تواجد بعيد المدى، وتفريغ مناطق سكانية بأكملها من أهلها تمهيدًا لتهجيرهم، إضافة لوضع حد لآلية المساعدات الأمريكية القائمة على مبدأ الابتزاز الأمني- الإنساني.
وعلى الرغم من بساطة المطالب في شكلها الظاهري، فإنها تُعد ذات طابع استراتيجي عميق. فهي تضع الولايات المتحدة والمجتمع الدولي أمام اختبار جاد: هل من المعقول أن يُرفض مطلب إنساني بإدخال المساعدات دون قيود؟ أو أن يُعد الانسحاب من أراضٍ محتلة مطلبًا غير مشروع؟ خصوصًا في ظل تركيز واشنطن على استعادة الأسرى الإسرائيليين كأولوية سياسية ملحّة، ما يُضاعف قابليتها للضغط على حكومة نتنياهو لتقديم تنازلات جوهرية.
وفي اللحظة التي يحتاج فيها نتنياهو إلى إغلاق ملف الأسرى بأقل كلفة سياسية، تبدو شروط المقاومة مدروسة بعناية، وتُشكّل في جوهرها محاولة لبناء مسار جديد لتفكيك العدوان، وفتح بوابة فعلية نحو إنهاء الحرب، لا فقط إيقاف النار مؤقتًا.
وعليه، يمكن القول إن رد المقاومة وتعديلاتِها لم تأتِ من موقع المناورة، بل من موقع التصميم على تقليص الأثر الاستراتيجي لحرب الإبادة، وكبح جماح المشاريع الإسرائيلية في غزة، تمهيدًا لتدشين مرحلة جديدة تعيد الاعتبار للحق الفلسطيني، وتُنهي أحد أكثر الفصول دموية في تاريخ نضاله.